البحر يهمس... شواطئ لبنان ومغاوره ومحمياته الطبيعية
في الجنوب والشمال، وعلى امتداد الساحل اللبناني، يمتدّ البحر كقصيدة زرقاء تتنوّع أبياتها بين الشواطئ الصخرية والرملية، وبين المغاور البحرية الغامضة والمياه النقيّة التي تأوي الحياة. في هذا المحور من "عيش لبنان"، نستكشف أجمل الشواطئ اللبنانية، من الرمال الذهبية في صور والبياضة، إلى المغاور المائية في البترون.

الساحل اللبناني...
أكثر بكثير من مجرد مياه وصخور ورمال
جاد فقيه

تعتبر الكاتبة والروائية الأميركية كايت شوبان أن "صوت البحر فاتن، لا يتوقف، يهمس، يصرخ، يدعو الروح إلى التوهان"، وذلك في رواياتها الشهيرة "الصحوة". وليس غريباً أو جديداً القول إن توافر ساحل في أي بلد كان يغنيه من الناحية السياحية، فكيف إذا كان هذا الساحل يمتد على طول خريطة البلد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب كما الحال في لبنان.
الساحل اللبناني الذي يمتد على طول أكثر من 220 كيلومتراً، يعد من أبرز عناصر الجذب السياحي لما يحمله من تنوع طبيعي وجمالي فريد. من شواطئ الناقورة الصخرية جنوباً إلى رمال طرابلس الذهبية شمالاً، يقدّم البحر الأبيض المتوسط في لبنان لوحة بحرية آسرة تلتقي فيها زرقة المياه زرقة السماء في أفق ساحر، وتحتضنها جبال لبنان الخضراء في مشهد لا يشبه سواه قط.
شواطئ لبنان ليست مجرّد وجهات للسباحة والاستجمام، بل هي مساحات تنبض بالحياة والثقافة وتكمن فيها قلاع تاريخية وآثار غمرتها المياه كمدينة صور القديمة التي غمرها البحر منذ قرون عدة.
ولكل شاطئ في لبنان ميزة خاصة به، فالبترون مثلاً تشتهر بجوها الليلي البحري، بينما تعرف جبيل بوجود 3 أنواع من الشواطئ: الأول رملي والثاني صخري والثالث فيه الحصى الأبيض الصغير. أما بيروت، فشواطئها مثل الرملة البيضاء والمنارة تعكس وجه المدينة الديناميكي الذي يثبت أن التمدن والطبيعة ليسا ضدين ويمكن أن يلتقيا. أما شط طرابلس وبحرها فمعروف ببساطته الشعبية والجزر التي تبدو وكأنها أسراراً خرجت من أعماق البحر لتتكئ على صفحة المياه بمعزل عن صخب يابسة المدينة.
مدير معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند الدكتور منال نادر شرح في حديث إلى "النهار" أن الخط الساحلي اليوم مع كل الردميات بات نحو 380 كلم، مضيفاً: "الشاطئ اللبناني 80 % منه صخري، و20% منه رمل وبحص وفيه تنوع بيولوجي عال وفيه أصناف متعددة، لكن بأعداد قليلة لكل صنف، وفيه أصناف لا تجدها إلا فيه كونه بحراً مغلقاً نوعاً ما، وبما أن لا أنهر في شرق المتوسط ولا ضخ للمغذيات من مواد عضوية وغيرها في البحر نجد أن الثروة المائية انتاجيتها في الربيع لا في الصيف."
وبحسب نادر، "عدد أنواع الأسماك في بحرنا يصل إلى نحو 1500 صنف معروف إلى الآن، لكن لا تعتمد الدولة اللبنانية رسمياً لائحة بهذه الأنواع وكذلك الحال أيضاً بالنسبة إلى النباتات البحرية المتنوعة
وعن وضع الشطوط، يقول نادر: "الشطوط الرملية مهددة بالتآكل نتيجة العمران المستمر وبناء سد أسوان الذي منع تدفق الرمال من مصر إلى لبنان، لكن يمكن الحفاظ عليها طبعاً عبر إزالة التعديات وجعل التيارات وعوامل البحر تعمل بشكل طبيعي، وهذا يمكن توصيفه بالتصالح مع الشط."
ونظراً إلى هذا التنوع البيولوجي والبيئي الكبير على طول الشاطئ اللبناني أقر مجلس النواب اللبناني 3 قوانين تحوّلت بموجبها 3 مواقع بحرية محميات طبيعية.
أول محمية طبيعية بحرية في لبنان أعلن عنها كان عام 1992 وهي محمية جزر النخيل التي كانت معروفة سابقاً بجزر الأرانب لكثرة الأرانب فيها، وهي تضم 3 جزر قبالة عاصمة الشمال طرابلس وهي النخل وسنن ورامكين وقد تم تخصيصها منطقة محمية خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط بموجب اتفاقية برشلونة، ومنطقة طيور مهمة بموجب اتفاقية حماية حياة الطيور وتبلغ مساحتها نحو 200000 متر مربع.
أما المحمية الثانية فهي محمية صور الطبيعية التي أعلن عنها عام 1998 جنوباً التي تمتد على 3 أقسام: الشاطئ الرملي، منطقة رأس العين والمستنقعات، ومعروف عنها أنها تؤوي السلاحف الضخمة الرأس وعدداً من أنواع الطيور المهددة بالانقراض عالمياً.
وفي عام 2020 أصبح شاطئ العباسية محمية طبيعية، كونه من أفضل الشواطئ الرملية في المنطقة وهو يشكّل امتداداً لشاطئ صور وتالياً امتداداً لمحمية صور ويشكّل محطة استراحة للعديد من الطيور المهددة بالانقراض.
كل ما سبق يجعل الشاطئ اللبناني ينافس أشهر الشواطئ العالمية بجدارة، إذ أنه لا يقل غنى عنها، لا في المناظر الطبيعية ولا في الثروة البيولوجية ولا حتى في الكنوز الأثرية.


مبادرة تمنح الأمل لسلاحف مهدّدة وشاطئ منسيّ
روان أسما

في أقصى الجنوب اللبناني، وعلى شاطئ لا يزال يحتفظ بجماله الطبيعي وتنوعه البيولوجي رغم كل التحديات، تتكرر مشاهد نادرة تلامس القلب: سلحفاة بحرية تخرج من عمق البحر تحت جنح الليل، تحفر في الرمال بصبر، وتضع بيضها في صمتٍ، ثم تعود إلى المجهول.
في هذا المكان البعيد عن الصخب، تتكوّن حكاية بيئية لافتة، بطلتُها فاديا جمعة، صحافية لبنانية تحوّلت تدريجياً إلى ناشطة ميدانية. وجدت في هذا الشاطئ أكثر من مشهد جميل... وجدت فيه قضية، ومسؤولية، ورسالة تستحق أن يضحى بالوقت لأجلها.
بدأ كل شيء قبل نحو عشر سنوات، حين قررت التطوع لحماية السلاحف البحرية على شاطئ "حمى المنصوري"، أحد أهم مواقع تعشيش السلاحف في لبنان.
كانت أيامها تبدأ مع أول خيوط الفجر على الشاطئ، وتمتد بين التوثيق، وتنظيف الرمال، وتنظيم النشاطات البيئية، وتوعية الناس. شيئاً فشيئاً، تحوّل هذا الجهد إلى مشروع حيّ، ينبض بالشغف والعزم.




لم تخطّط فاديا يوماً لتدخل عالم السلاحف، بل وجدت نفسها فيه بعد موقف إنساني بسيط، ترك فيها أثراً عميقاً. خلال عملها الصحافي عام 2016، وصلت إليها معلومة عن سلحفاة مصابة على شاطئ الرميلة. بحثت عن جهة مختصة لإنقاذها، فلم تجد، فقررت التدخل بنفسها. كان ذلك الموقف البسيط شرارة البداية لمسار غير متوقع.
في ما بعد، تعرفت إلى منى خليل، المرأة التي كرّست عقدين من عمرها لحماية السلاحف في المنصوري. تطوّعت جمعة ضمن فريقها، وتدربت ميدانياً على مراقبة الأعشاش وتوثيق البيانات، ثم تابعت مسارها بتعزيز معرفتها عبر دورات تدريبية وتشاركية في جنوبي إيطاليا. وبعدما تُرك الشاطئ من دون حماية لعامين، عادت جمعة لتتسلم زمام المبادرة، ولتشكّل مع ابنتها وشابين من أبناء المنصوري فريقاً صغيراً يكمل المسار الطويل الذي بدأته منى.
من عام 2023، بدأ هذا الفريق الصغير مراقبة الشاطئ كل يوم خلال موسم التبييض، الذي يطلّ عادة في أيار/مايو. يتابعون آثار السلاحف، يحدّدون أماكن الأعشاش، يغطّونها بشبك لحمايتها من الحيوانات، ويجمعون ما أمكن من معلومات حول الفقس والتكاثر.
مبادرة تمنح الأمل لسلاحف مهدّدة وشاطئ منسيّ
