حفاوة الماضي وأناقة الحاضر: بيوت الضيافة والفنادق الأثرية في لبنان بين جدران حجريّة عتيقة وحدائق تفوح منها رائحة الزمان. تحتضن بيوت الضيافة والفنادق الأثرية في لبنان تجربة ضيافة لا تشبه سواها. إنها محطات إقامة تتجاوز المبيت، لتحكي قصص بيوتٍ أعادت الحياة إلى تراث معماري مميّز، وقرى تنفّست من جديد مع كل زائر يطرق أبوابها.

40 ألف غرفة في فنادق لبنان...

ونحو 10 آلاف توفّرها Airbnb

يزداد يوماً تلو الآخر منسوب الأمل المشوب بالحذر من مفاجآت أمنية غير محسوبة، بنجاح موسم الصيف السياحي، وعودة لبنان إلى خريطة السياحة الدولية ليكون مقصداً من جديد للسيّاح العرب، والخليجيّين منهم خصوصاً، بعدما أبعدتهم ظروف ووقائع تداخلت فيها السياسة مع الأمن.

تشي التحضيرات بأن ما فات لبنان لسنوات قد يعود بقوة، اللهم إذا استطاعت الدولة ومؤسّساتها المعنيّة النجاح في رعاية القادمين إلى البلاد، وتأمين جودة خدمات البنية الأساسية للصناعة السياحية ومراقبتها وأسعارها التي "يحدّدها أصحاب المؤسسات السياحية وتوافق عليها وزارة السياحية أو ترفضها"، وفق ما يقول رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر لـ"النهار". مع الإشارة إلى أن الأسعار، بعد موافقة الوزارة، تبرزها الفنادق في صالات الاستقبال لتكون متاحة للزبائن.


هذا الأمر تعتمده المؤسّسات الشرعية، ولكن ماذا عن المؤسسات غير المنتسبة إلى النقابة أو غير الشرعية؟ يؤكد الاشقر أن "هذه المؤسسات ليست ضمن نطاق عملنا. نحن لسنا وزارة السياحة، بل نمثل النقابات التي تنظم عمل المؤسسات السياحية الشرعية وتتابع شؤون أعضائها. على سبيل المثال، من بين 10 آلاف مطعم ثمة 4 آلاف منها فقط مسجلة والبقيّة غير مسجلة. لذا، نطالب منذ أعوام بإلزامية الانتساب إلى النقابات كي نتمكن من ضبط هذا القطاع بالكامل".


عدد الغرف المتاحة؟


تشير الإحصاءات إلى وجود نحو 40 ألف غرفة فندقية قادرة على استيعاب ما يقارب 80 ألف شخص، إضافة إلى مؤسسات الشقق المفروشة المرخصة التي يبلغ عددها نحو 200 مؤسسة وتستوعب نحو 15 ألف نزيل، فضلاً عن النموذج الجديد مثل Airbnb وبيوت الضيافة، التي يصل عددها إلى نحو 201 مؤسسة توفر مجتمعة قرابة ألفي غرفة فقط.

في عام 2010 استقبل لبنان ما يقارب مليونين و150 ألف سائح، وكان في الإمكان الوصول إلى 3 ملايين سائح لولا الأزمات المتتالية، فهل المؤسّسات السياحية قادرة على استيعاب هذا العدد من السيّاح؟

يوضح الاشقر أن "مطار بيروت شُيّد ليستوعب 6 ملايين مسافر، فيما الواقع أنه يستقبل بين 12 و13 مليوناً، ما يدل على قدرتنا الكبيرة على الاستيعاب". 

ماذا عن دور وزارة السياحة في مراقبة المؤسسات غير الشرعية؟ يوضح الاشقر أن "الشرطة السياحية تعاني من نقص كبير في الإمكانيات، فعدد عناصرها لا يتجاوز 30 إلى 40، فيما المطلوب 300 إلى 400، بالإضافة إلى مشكلات أخرى، لا يمكن تعدادها".

وإذ قدّر الأشقر عدد غرف Airbnb في لبنان بنحو 10 آلاف غرفة، اعتبر أن "هذا الرقم غير دقيق، لأن هذه الوحدات تعمل من دون بيانات رسمية أو إحصاءات واضحة".


"بيت طراد"...
الفخامة والبساطة في ظلال عريشة عنب تحرسها الذاكرة 

 أحمد م. الزين

الأب اشتراه في العام 1984، ليكون ملاذ العائلة خلال الصيفيات، ثم مع وفاة والدتها في 2013 خافت أن ينهار البيت ويذوي. تقول سارة إن البيوت تموت إن تُركت. هكذا اتخذت قرارها: أن تنقذ البيت عبر إحيائه، لا فقط ترميمه.

أطلقت المشروع عام 2015، وافتتحته كبيت ضيافة في 2018، بعد أن جمعت حولها فريقاً من الأصدقاء المتخصصين، من مهندس الترميم إلى المصمّم الداخلي، وحتى من ساعدها في ابتكار علامة البيت التجارية. والهدف كان واضحاً: تحويله إلى بيت الأحلام، مع الحفاظ على روحه.

يضم "بيت طراد" اليوم 11 غرفة ضيافة، تتنوّع تفاصيلها ولا تتشابه اثنتان منها، بالإضافة إلى مسبح وحديقة واسعة تتوزع فيها الأرائك والزوايا الهادئة. في كل غرفة، تلتقي قطع الأثاث الأصلية مع لمسات التجديد، في توازنٍ يجسّد أناقة الماضي ودفء الحاضر.

في قلب كسروان الفتوح، تحديداً في بلدة الكفور، يقف "بيت طراد" شاهداً على أكثر من قرنين من التاريخ. مبنى تتقاطع فيه القصص العائلية مع حكايات الحجر، ويجمع في مساحاته روح الضيافة اللبنانية الأصيلة.

كان هذا البيت يُعرف قديماً بـ"بيت دحداح" وسكنه وجهاء من المنطقة. يشير تاريخه إلى أن أولى أبنيته شُيّدت بين عامي 1760 و1780، وتلاحقت عليه الإضافات والتوسيعات على مر العقود. يقولون إن جزءاً منه ربما كان ديراً للراهبات قديماً، نظراً إلى وجود تسع غرف متلاصقة بأسلوب يوحي بذلك، وإن كان الأمر غير مؤكّد، وفق سارة طراد المسؤولة عن "بيت طراد" اليوم.

مع مرور الوقت، وخصوصاً في أواخر القرن التاسع عشر، توسع البيت أكثر؛ صالة شُيّدت عام 1874، وأخرى عام 1888، وأضيف إليه مسبح في عام 2018 ليكمل قصة التحديث.

ورثت سارة طراد هذا المكان العابق بالذكريات عن والديها. 

هنا، لا يقدم المكان تجربة فندقية تقليدية، بل يشبه حقاً أن تنزل في بيت صديق. الإفطار والغداء والعشاء محضّرة بأسلوب البيت اللبناني؛ لا قوائم طعام محددة، بل مائدة تعكس ما يتوافر في المطبخ وما تشتهيه روح الضيافة. بوسع الزائر أن يأكل ويشرب كما يشاء، كأنه بين أهله، من دون أسئلة أو حسابات دقيقة.

ويتعدّى "بيت طراد" فكرة الضيافة المادية إلى تقديم تجربة ثقافية. الأواني النحاسية، السجّاد، الفوانيس، وحتى الكتب المكدّسة على الرفوف، جميعها تحكي عن تاريخ شرقي عابر للحدود من لبنان إلى الشام ومصر. كذلك تحيط به حديقة مزروعة بأشجار لبنانية الطابع: زيتون، سنديان، خوخ، وأرزات ترمز إلى فخر العائلة بهذا التراث.

قد لا يكون "بيت طراد" مكاناً لحفلات الزفاف الصاخبة، لكنه ملاذ للعائلات والأصدقاء القادمين من مختلف أنحاء العالم. يجتمعون هنا ليعيشوا لحظات بسيطة، حول طاولة واحدة، تحت عريشة عنب تحرسها الذاكرة. حتى الأطفال يجدون هنا مساحة للحرية، يركضون ويقطفون الفاكهة كما لو كانوا في بيت جدّهم.

باختصار، هو بيت يحتضن زوّاره ويصون ذكرياتهم، تماماً كما صانت سارة طراد ذكرى والدتها فيه، لتجعله مرآة تعكس ثقافة لبنان وجمال الضيافة فيه.


"بالميرا"
جارُ قلعة بعلبك...

من هنا عبرت أغاتا كريستي وفيروز وحكايا العصر الذهبي

كارلا سماحة

بالميرا ليس فندقاً عادياً، بل هو أحد أقدم الفنادق في الشرق، يقول حسن الحسيني ابن صاحب الفندق لـ"النهار". بُني على يد يوناني يُدعى بيريكليس ميميكاكيس، ليكون محطة للرحّالة الأوروبيين المتوجهين إلى القدس عبر بعلبك، التي كانت حينها جزءًا من متصرفية جبل لبنان. ومنذ بداياته، لم يكن "بالميرا" مجرد مكان للإقامة، بل نقطة تَقاطع للثقافات، والطبقات البرجوازية التي كانت تسافر على ظهور الخيل والقوافل. وقد احتفظ الفندق بسجلّ أسماء ضيوفه منذ تأسيسه، سجلات تكاد تشكّل متحفاً بحد ذاتها، تحوي توقيعات ملوك، فنانين، كتّاب، ومفكرين مرّوا من هنا وتركوا أثراً في المكان.

في إحدى الغرف، أقامت أغاتا كريستي وكتبت جزءاً من أعمالها. وفي أخرى نامت فيروز أثناء مشاركتها في مهرجانات بعلبك. الشاعر طلال حيدر، المخرج الفرنسي جون كوكتو، الجنرال ديغول، جبران تويني الجد، نينا سيمون، صباح، نصري شمس الدين، مايلز دايفس، ولويس آرمسترونغ... جميعهم زاروا "بالميرا" وأقاموا فيه وحدّقوا في ذات النوافذ المطلة على قلعة بعلبك الشهيرة.

بين العصرَين الذهبي والحديث، يقع فندق بالميرا في مدينة بعلبك. عندما تدخل الفندق الذي أنشأ منذ العام 1860، لا يسعك إلا أن تنبهر بجماله الذي يرمز إلى العصر الروماني الفاخر بكل ما فيه من تفاصيل.

أول ما تراه عيناك هو الحجر الفخم القديم، ثم أرضيات السيراميك والأثاث التقليدي البرجوازي، مزينة بمصابيح جلد النعامة والسجاد الشرقي، إلا أن قصّة الأناقة هذه لم تبق على حالها بعد أن تضرر الفندق كثيراً إثر الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ما يغيّر عنوان بالميرا إلى "قصة بين الفخامة والصمود".

رحلة الصمود لم تكن فقط في الحرب الأخيرة، فالفندق يعتبر شاهداً حيّاً على مرور الزمن والحروب وتحوّل الحضارات، ورغم ذلك ظلّ الفندق بتفاصيله القديمة التي تختلط ببعض التغيرات.

جرى ترميم الفندق مرتين في تاريخه، عامي 1924 و1967، دون المساس بروحه الأصلية. ويؤكد الحسيني أن حين اشترى والده الفندق في الثمانينات، حرص على ترميمه مع الحفاظ على طابعه التراثي، وأضاف إليه مجموعة من أعمال الفنان الفرنسي جون كوكتو، الذي أغرم ببعلبك وظلّ يزورها على مدى 13 سنة متتالية. واللوحات لا تزال تعرض حتى اليوم داخل أروقته، كشاهد على أهمية المدينة الثقافية والفنية.

في الحقبة الذهبية، كان الفندق يضج بالحياة. ويضيف الحسيني أنه قبل العام 2006، كان الفندق يستقبل نحو 300 شخص يومياً. لكنّ الحرب وما تلاها من تصنيف مدينة بعلبك ضمن "المنطقة الحمراء"، قطعت هذا الامتداد فجأة. فتوقّف تدفّق السياح، وانقطع صوت الموسيقى من الممرات، وأصبح الفندق اليوم يتيماً بلا تمويل وإصلاح، يطلب فقط التطلّع إليه من الناحية الأثرية والثقافية التي هي وحدها أساس عودة الحياة الى بعلبك.

ورغم الأضرار التي لحقت به من الحرب، لا تزال الغرف تحتفظ بذاكرتها. في الغرفة رقم 30، أقام الجنرال ديغول. وفي العام 1920، بعد اتفاقية سايكس بيكو، اجتمع الجنرال غورو وجورج بيكو في بالميرا، ووقّعا في دفاتر الفندق ما يعدّ أول اعتراف فرنسي بأن بعلبك جزء من لبنان، في لحظة باتت رمزاً لتاريخ لبنان الكبير.


اليوم، "بالميرا" ليس فندقاً فقط، بل قطعة حيّة من التاريخ. مبناه المكوّن من طبقتين و32 غرفة، ليس مجرد حجر وزجاج، بل أرشيف بشري وشعري وثقافي. كل غرفة فيه تروي قصة، وكل زاوية تختزن لحظة أو ذكرى، سواء لشاعر لبناني، أو لعازف جاز أميركي، أو لزائر عادي شعر أنه في حضرة التاريخ.


لكن الفندق بحاجة إلى حياة. يحتاج إلى زوّار، إلى ترميم، إلى التفاتة من الدولة، كما يقول الحسيني، لا من باب الاستثمار بل من باب الاعتراف: الاعتراف بأن بعلبك ليست فقط مدينة في الأطلس، بل قلب نابض في ذاكرة وطن.

في دير القمر عاصمـة الأمــراء...
فــنـدق تـراثي يـروي الـتـاريـخ 

"كان القصر مهملاً، وارتأينا أنا وزوجي أن نستثمره وننفض الغبار عنه ونحوّله إلى بيت ضيافة، واستخف الجميع بمشروعنا عندما بدأناه، إذ كنّا الأوائل في المنطقة بهذا التوجّه حينها"، تقول مارت بستاني المستثمرة المالكة لفندق "دير الأمراء" التراثي لـ"النهار".

استغرقت أعمال الصيانة 3 سنوات، وقد حافظ القصر على خشب القطران القديم وتم ترميمه وطلاؤه. وباشرت مارت باختيار الأثاث المناسب لهذه الحقبة الغابرة بعناية وذوق رفيع يليق بهوية التراث والقرية ويلتقي مع الطابع العصري المريح. وافتتح المشروع كبيت ضيافة عام 2014. وجاءت التسمية "دير الأمراء" تيمّناً ببلدة الأمراء، دير القمر، ولكون هذا القصر تابعاً للدير في المنطقة.

يأخذك سحر الماضي في كل حجر من حجارة هذا القصر التراثي في دير القمر/ قضاء الشوف. البلدة الملقّبة بعاصمة الأمراء، كانت مقراً لإمارة جبل لبنان خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ اتخذها الأمراء مقراً لحكمهم، قبل إنشاء دولة لبنان.

وشكّلت هذه الأهمية التاريخية جاذباً سياحياً، بحيث تحوّلت قصور الإمارة إلى معالم سياحية، وقصر الأمير بشير الثاني الذي أهداه إلى مستشاره بطرس كرامة، واحداً منها.

شُيّد هذا القصر عام 1827. تحوّل  في زمن الانتداب الفرنسي إلى مدرسة داخلية علمت كبار الشخصيات في المنطقة، ثم إلى مركز مجتمعي، ثم إلى مدرسة رسمية، حتى أصبح اليوم بيت ضيافة يروي تاريخاً خالداً، ويجذب مقيمين وأجانب.

كانت غرف القصر فصولاً مدرسية ذات أسقف مرتفعة. وارتأى زوج مارت أن غرف "دوبلاكس" مناسِبة للعائلات ليشعر الضيوف أنّهم في منازلهم، و"هذا ما يحصل فعلاً"، وفق مارت. فالجميع يستذكر تاريخ لبنان في هذا الفندق ويطلب أن نروي له تاريخ القصر.

يضم القصر حالياً 19 غرفة، وسمّيت كلّ منها على إسم أمراء وأميرات من زمن الأمير بشير الثاني. وقد ربطت هذه الفكرة الجميلة الناس بتاريخ هذا المكان أكثر و"جاءت لتؤكد أنّ هذا الفندق هو فعلاً فندق تراثي، وأكمّلت قصته التاريخية".

يشعرك تصميم القصر بحدّ ذاته بالحميمية، وأنّك في بيتك أو مثلاً في بيت جدك بغرفه القليلة الكثيرة. تتوزع الغرف على طبقتين تجمعهما باحة في منتصف القصر قد تكون هي منبع هذا الوصل والشعور بالدفء بين حجارة هذا المكان التاريخي. واستحدثت مارت بركة ماء ذات نافورة لتتوسط الباحة، في عودة إلى البيوت القديمة التراثية، لتزيد من شعور الناس بالماضي.

ساهم موقع "دير الأمراء" الجبلي الجميل بجذب الزوار للهروب إلى الطبيعة من زحمة المدينة. ولعبت أصالة القصر دوراً أساسياً بجذب الناس إليه وإلى قضاء الشوف الزاخر بالتراث، حتى بعمران منازله.

يقصد "دير الأمراء"، السياح الغربيون الذين يعجبون بشكل لا يصدّق بالقصر التراثي ويتفحصون تفاصيله، وفق مارت. كذلك، أفراد البعثات الديبلوماسية وسفراء كثر في لبنان ومسؤولون في مؤسسات تربوية أجنبية كبرى،  أمّا اللبنانيون المقيمون، فيأتونه من كل المناطق اللبنانية، واللافت أنّهم بنسبة كبيرة من جيل الشباب.

وحظي "دير الأمراء" بتصنيف ثلاث نجوم كأقدم فندق تراثي في لبنان من وزارة السياحة.

"ألبرغو"...
ذاكرة بيروت في فندق بوتيكي


رولا عبد الله

المبنى الذي يحتضن "ألبرغو" ليس مستحدثًا. شُيّد عام 1930 كمبنى سكنيّ من ثلاث طبقات، على الطراز النيوكلاسيكي، وسكنت فيه المربية تيريزا قرم حتى عام 1980. حين اقتناه بشارة نمور، كانت بيروت تلتقط أنفاسها في فترة هدنة قصيرة من الحرب. أراد أن يصنع من هذا البيت نُزُلًا دافئاً، فوسّعه عام 1994 ليُضيف إليه ثلاث طبقات أخرى، من دون أن يمسّ بروحه. بقي الحجر كما هو، والعناصر الأصلية من درابزين، وأقواس، ونوافذ، صُقلت لتستعيد بريقها الأول.

يمتدّ ألبرغو اليوم على 33 جناحاً، لا يشبه واحدٌ منها الآخر. كل جناح مؤثّث كما لو كان بيتاً مستقلًا من بيوت السفراء أو الكتّاب أو الرحالة. ستجد الأرابيسك إلى جوار الخزف الصيني، والسجاد الفارسي تحت ثريا موريسكية، ومكتبة صغيرة تضم كتباً. هذه ليست غرفاً، بل متاحف صغيرة، دافئة، تُشبه من عاش فيها ذات يوم... أو من حلم ذات مساء أن يسكن الجمال.

في زقاق هادئ من حيّ الأشرفية، وعلى مسافة قريبة من شارع مونو، يقع فندق "ألبرغو" كواحد من تلك الأماكن التي لا تقدّم إقامة فاخرة فحسب، بل تروي حكاية مدينة تغيّرت كثيراً، وإن بقيت بعض زواياها محتفظة بنبض الماضي، ورائحة البيوت العتيقة، وأصوات الناس الذين مرّوا ذات زمن.

"ألبرغو" ليس مجرد فندق، بل أحد معالم بيروت السياحية التي تحفظ ذاكرتها. أعاد بشارة نمّور، ابن صيدا، الحياة إلى هذا المبنى الذي بُني عام 1930، وحوّله في تسعينيات القرن الماضي إلى فندق بوتيكي يحمل بصمته وحنينه ورؤيته لفن الضيافة. جمع فيه بين أصالة المكان وأناقة التجربة، ليصبح وجهة يقصدها من يبحث عن أكثر من سرير ومنظر جميل: عن دفء وقصة ومكان يشعر فيه أن بيروت القديمة لم تختفِ تماماً.

على سطح الفندق، يمتدّ مسبح بانورامي بطول 16 متراً، يُطلّ على بيروت القديمة والجديدة، بين قباب الكنائس ومآذن الجوامع. هناك، حيث الشرفات مزروعة بالريحان والليمون، يرتاح الضيوف في صمت يليق بمكان صُنع ليُشبه الحلم.

في الطابق الأرضي، يستقبلك مطعمAl Dente ، بتوقيع إيطالي ولمسة لبنانية. هو أول مطعم افتتحه نمّور في هذا المشروع، قبل الفندق نفسه، فصار بمثابة النواة التي نبتت منها الفكرة. إلى جانبه، صالة "Swim Club" ومطعم السطح، يقدّمان سهرات بيروت بطابع راقٍ، بعيد عن الصخب، قريب من القلب.

بشارة نمور...
وعــزّ بـــيــروت

وُلد بشارة نمّور في صيدا عام 1946، ودرس الحقوق في الجامعة اليسوعية، ثم سلك طريقاً آخر تماماً. سحرته ثقافة الضيافة، فأنشأ في بيروت سلسلة متاجر ومطاعم راقية مثل "غوديز"، ثم غادر إلى واشنطن أثناء الحرب ليُدير هناك عشرين مطعماً أصبحت حديث الصحف الأميركية. لم تكتفِ به واشنطن، فسافر إلى باريس ومصر، وأنجز مشاريع كثيرة، أبرزها سلسلة "بلو نايل".

حين عاد إلى لبنان عام 1992، حمل معه كل ما تعلّمه في المنافي، وأضافه إلى ذوقه اللبناني، ليبني فندقاً يشبهه. يقول: "أنا لم أقلّد الغرب، بل استعدت بيروت كما كانت: أنيقة، مختلفة، متوسّطية الهوى."

الناس وصفوه بأنه عنيد ومغامر. رجل رأى أن الضيافة ليست تجارة، بل فنّ، وأن الغرفة ليست مكاناً للنوم، بل قصيدة يمكن أن تُكتب من خشب وحديد وورق جدران.


في قلب بيروت

لا يُشبه "ألبرغو" الفنادق الحديثة. لا يصرخ بفخامته، بل يهمس بها. يقع على بُعد خطوات من متحف سرسق، ومن شارع مونو، ومن الجميزة. تستطيع أن تمشي من عتبته إلى مقهى صغير، أو مكتبة عتيقة، أو كنيسة حجرية عمرها قرن. هو في القلب الجغرافي للمدينة، لكنه أيضاً في قلب ذاكرتنا الجماعية عن بيروت: المدينة التي قاومت الحرب، وتحب الحياة، وتؤمن بأن الأناقة يمكن أن تكون فعل مقاومة. لعل أجمل المشاريع هي تلك التي تبدأ بحلم صغير... وتكبر لتُدهش مدينة.