لبنان... المياه تتكلّم

في قلب الطبيعة اللبنانية، تنساب الأنهار رقراقة بين الجبال والوديان، وتتفجّر الشلالات من الأعالي كأنها تنشد الحرية. ليس مشهد الماء في لبنان تفصيلاً جغرافياً، بل هو نبض حياة ومشهدية ساحرة تعكس روعة التنوّع الطبيعي.

بالوع بلعا

أعجوبة نحتتها الطبيعة عبر الزمن

نضال مجدلاني

يقع الموقع في بلدة شاتين الجميلة، وتحوطه منازل حجرية تقليدية وحدائق مزروعة بأشجار التفاح والكرمة. تبعد شاتين نحو 98 كلم عن بيروت، وترتفع حوالى 1450 متراً عن سطح البحر. يمكن الوصول إليها من البترون عبر وطى حوب وتنورين، أو من جهة جبيل عبر إهمج، اللقلوق. الطريق في ذاتها رحلة جميلة، تمرّ قرب كفرحلدا ودوما أو اللقلوق حيث تستحق التوقف ولو لبرهة.

نُظّمت مسارات المشي وجرى تسهيل الوصول ما أسهم في تحفيز السكان المحليين على البقاء والعمل في قراهم على مدار السنة. واليوم، تستقبل المنطقة زوّاراً من لبنان والعالم، يأتون لمشاهدة موقعٍ يُعدّ درساً حيّاً في علم الجيولوجيا، وتجربة مغامرة فريدة بالنزول إلى أحد أعماقه، أو حتى الاكتفاء بالوقوف على أطرافه وتأمّل عظمة تكوينه الطبيعي والمنظر البانورامي الذي يقدّمه.

في قرية شاتين، لا يغيب دفء الضيافة مهما اختلف الفصل. سكانها المقيمون على مداخل الموقع، شتاءً وصيفاً، يفتحون أبوابهم للزائر، ويقدّمون وجبات تقليدية بلمسة محلية، من المناقيش على الصاج إلى أطباق متميّزة تعبق بنكهات الضيعة. بعضهم خصّص أماكن للتخييم الموسمي، لمن يرغب في قضاء ليلة تحت نجوم الجبال، وسط سكون الطبيعة وهمس الصخور.

 يُذكر أن الباحث الفرنسي هنري كويفيه كان أول من وثّق هذا التكوين الجيولوجي في خمسينيات القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت، أصبح بالوع بلعا واحداً من أبرز المعالم الطبيعية في لبنان، وظهر في منشورات وصحف عالمية، بينها The Guardian وغيرها، بحيث صُنّف أحد أجمل الشلالات في العالم، وواحداً من أعجب التكوينات الصخرية الطبيعية التي تستحق الاكتشاف.

اليوم، لم يعد بالوع بلعا مجرّد صورة شهيرة على إنستغرام، بل تجربة يجب أن تُعاش، ودرس حيّ في قوة الطبيعة التي سبقتنا وستبقى بعدنا. لعلّنا نتعلّم منها كيف نمنح الطبيعة مساحة لتتنفّس وتستمرّ، بلا تدخّل، وبكثير من الاحترام.

هنا، في حضرة المياه والصخر والفراغ، تتأكد كم هو لبنان وما يحويه عابر للزمن.

منذ اللحظة التي مشيت فيها نحو حافة بالوع بلعا، في قضاء البترون شمال لبنان، قبل عقدين من الزمن، شعرت كأنني أمام صفحةٍ حيّة من كتابٍ جيولوجيٍ ينطوي على قصصٍ تكاد تكون خرافية، لولا أن عوامل الطبيعة سطّرتها عبر ملايين السنين. على ارتفاع 1550 متراً، يتهاوى المشهد أمامك إلى عمقٍ يبلغ 255 متراً يختفي تحت عمق الظلام، تخترقه ثلاثة جسور طبيعية صخرية تكوّنت بتواطؤ المياه والصخر مع مرور الزمن.

ومنذ ذلك اليوم، بتّ أعود إليه مرّتين في السنة على الأقلّ، لأشهد هذا العجب الساحر بعينيّ، وأطمئنّ إلى شلّاله المهيب الذي يزأر بأقصى عنفوانه في فصل الربيع، حينما تذوب ثلوج اللقلوق وبلعا وأعالي تنورين، وتصُبّ مياهها المتجمّعة في هذا الجوف العميق، عبر أقواسه الصخرية الثلاثة. في تلك اللحظات، يبدو الشلال كأنه ينهض من قلب الأرض ويعيد تشكيل المشهد في كلّ مرة بعظمة تُدهشك، كأنك تراه للمرّة الأولى.

ورغم أن تدفّق المياه ليس دائماً بالحجم المتوقّع، يستحق المشهد الطبيعي في ذاته الزيارة في كل موسم. يكفيك أن تقف على الشرفة العلوية، لتشاهد التفاف الجدران الصخرية الملساء والمتعرّجة وانحدارها، والخطوط التي حفرتها المياه مدى العصور. أمّا الحفرة الضخمة في قلب الجبل والجسر الأول المعلّق فكأنّهما مسرح طبيعي هائل، لا يمكن للعقل إلا أن ينحني أمام هندسته العجيبة.

تبدأ الزيارة عادةً من الشرفة العليا التي تكشف المنظر البانورامي للموقع الذي يتوسّطه الشلال، ويصل الزائر إليها بعد نزول عدد من الأدراج، وهي لا تزال حتى اليوم مجّانية. أمّا النزول إلى الموقع ذاته، فيتطلب دفع رسم دخول رمزي (200 ألف ليرة لبنانية) يشمل استخدام الأدراج الطويلة ومن ثمّ المشي بضع خطوات إلى الموقع. وخلال عطلات نهاية الأسبوع في الصيف، يتوافر خيار النزول عبر عربة التلفريك, بالإضافة إلى نشاطات المغامرة مثل الزيبلاين والجسر الهوائي.

نهر الجوز

روح الطبيعة وحارس الطواحين القديمة والقلاع

نضال مجدلاني

التنوّع البيئي على ضفاف نهر الجوز لا يقلّ سحراً، من أشجار السنديان والجوز التي تؤوي أعشاش العصافير، إلى النباتات والزهور البرّية التي تتبدّل مع المواسم، فتلوّن الضفاف وتملأ الهواء بالعطر. وبين الكهوف والأودية الجانبية، تجد بعض الكائنات البرّية مأوى هادئاً في هذا الركن الطبيعي النادر. في الربيع، يتحوّل كل شيء إلى مشهد مكتمل من الحياة: ألوان، وروائح، وأصوات تنبعث من الأرض نفسها.

ولأن الطبيعة لا تكتمل من دون الإنسان، تتكامل التجربة مع المطاعم الريفية التي تتوزّع على ضفاف النهر لتقدّم أطباقاً لبنانية تقليدية بطابع محلي أصيل. هناك، يبدو نهر الجوز وكأنه شريان حياة يربط الأرض بالناس، والمكان بالذاكرة، والطبيعة بنكهاتها الحقيقية.

على نهر الجوز، لا تخطو فقط في دربٍ طبيعي، بل في رواية مفتوحة من الجمال. هو المكان الذي يعود فيه الإنسان إلى ذاته، بعيداً عن ضجيج المدن، فيلتقي سحر الأرض، ويُصغي إلى همس الشجر ورقصة الضوء على سطح الماء. هو لبنان… كما يجب أن يُروى وكما يجب أن يُصان.

يتسلّل نهر الجوز بهدوئه العذب في قضاء البترون، ويمرّ ببعض تخوم الكورة، فيرسم مجراه كأنه نقشة في صخر الزمن، ينساب بين الجبال والسهول، ويتظلّل أشجار الجوز التي حمل اسمها. هو أكثر من نهر... هو رحلة متواصلة في قلب الطبيعة والتاريخ والمستقبل.

ينبع هذا النهر من أعالي قضاء البترون، ويتدفق لمسافة تقارب الثلاثين كيلومتراً، يعبر فيها القرى والمروج، ويسقي بساتين التين والزيتون والحمضيات، قبل أن يصبّ في البحر المتوسّط. وعلى طول مجراه، يقف كنهر شاهِد على حياةٍ تعدّدت وجوهها: من الطبيعة البكر، إلى الطواحين القديمة التي ما زالت بقاياها تحرس الضفاف، إلى القلاع التي أقيمت لحماية الطريق الساحلي، وعلى رأسها قلعة المسيلحة.

السير على دروب نهر الجوز ليس مجرّد نزهة، بل دعوة إلى الغوص في مشهد حيّ، وإلى المساهمة في حفظ طبيعته وإرثه التاريخي. تتنوّع المسارات على ضفافه، منها درب ينطلق من مجرى نهر جاف وصولًا إلى المياه الجارية، حيث تلتقي الطواحين والجسور الحجرية بصوت الخرير الهادئ. وهناك درب المسيلحة الذي يبدأ من القلعة ويمتد بمحاذاة النهر، ودرب كفتون التاريخي الذي يقود إلى دير سيدة كفتون الأرثوذكسي المنحوت في الصخر، محاطاً بأشجارٍ كالزيتون والحمضيات.

في كفرحلدا، يتّخذ النهر مشهداً أكثر درامية، إذ يتدفّق ليشكّل شلال كفرحلدا الشهير، أحد أجمل شلالات لبنان. تتساقط المياه من علوّ شاهق في مشهد يخطف الأنفاس، بينما تنبض "بساتين العصي" بالحياة الريفية وحقولها الخصبة التي تسقيها مياه النهر.