عالم تحت الأرض... أسرار لبنان في جوف الصخور
حين يضيق الأفق في الأعلى، يتّسع في الأعماق. في مغاور لبنان، تفتح الطبيعة دفاترها السرّية، وتروي عبر قطرات الماء المتراكمة منذ آلاف السنين قصة زمنٍ حُفر في الصخر. من جعيتا، التحفة العالمية التي تسكن ذاكرة كل زائر، إلى مغاور كفرحتا وعيون السيمان ومعاصر الشوف ومغاور عكار، يشكّل هذا العالم الباطني تجربة حسّية فريدة، مزيجاً من الدهشة، والرهبة، والجمال الصامت.



مغارة الرويس
في العاقورة...
تجربة في عمق الصمت والجمال
زهير غدار

بعد الاستماع إلى شرح من فريق المغاور، فجأة طُلب منا إطفاء كل المصابيح!… لحظة صمت مطلق وعتمة تامة، لا ضوء ولا ظل، فقط صوت المغارة: قطرات ماء تتساقط من سقف بعيد، وصدى خافت لأنفاسنا، وانغماس كامل في العزلة التامة. كانت تلك الدقيقة في الظلام من أكثر اللحظات صدقاً، شعرنا خلالها بعظمة هذا الكيان الطبيعي وبدقة النظام البيئي الذي حافظ على توازنه آلاف السنين بعيداً عن أعين البشر.
وبعد هذه التجربة الرائعة أكملنا الجولة مع فريق جمعية المغاور المزودين بالأجهزة والمعدات اللازمة، ليبينوا لنا القيمة الجيولوجية لكل تشكيل صخري مررنا به، محذرين من أي عبث أو لمس غير محسوب، إذ قد يؤدي أقل ضرر إلى إتلاف تكوين طبيعي نادر استغرق مئات السنين في التكوّن. وكما وصفها أحد أعضاء الفريق، "المغارة مختبر حيّ، وكل حجر فيها وثيقة جيولوجية تحفظها الطبيعة بعناية".
وعلى رغم أن مغارة الرويس ليست وجهة سياحية تقليدية، ولا يمكن دخولها إلا بإذن خاص وتحت إشراف خبراء بيئيين، حفاظاً على خصوصيتها وهشاشة نظامها البيئي، هي في الوقت ذاته تجربة لا تُفوّت لعشاق الطبيعة والاكتشافات.
في مغارة الرويس، لا تكتشف فقط طبقات من الصخر، بل طبقات من الدهشة والانبهار. هناك، في عمق الصمت، يتكشّف الجمال على مهل، كأن الأرض تبوح بأسرارها فقط لمن يصغي ويتأنّى.
وكما تحفظ المغارة أسرارها في الظلمة، علينا نحن أن نحفظها من التلوّث والإهمال والعبث.
زيارة الرويس ليست فقط مغامرة، بل مسؤولية وفرصة نادرة لرؤية لبنان من زاوية مختلفة.
في أعالي بلدة العاقورة الجبلية ضمن قضاء جبيل، خضنا تجربة استثنائية داخل مغارة الرويس، إحدى أجمل المغاور الطبيعية في لبنان وأكبرها. لم تكن الرحلة عادية، بل جاءت ضمن جولة علمية واستكشافية برفقة فريق متخصص من جمعية المغاور اللبنانية، ما أضفى على التجربة بعداً معرفياً وبيئياً في موقع نادر يحتاج إلى عناية وتوثيق.
قبل الدخول، استقبلنا علاء الهاشم، أحد أبناء المنطقة وأصحاب المغارة، المطلع على خفاياها المخبأة خلف مدخل بسيط وسط الجبال. عند الفتحة، لفت انتباهنا وجود معاصر نبيذ حجرية يُعتقد أنها تعود إلى العصور الرومانية أو الفينيقية، دلالة إلى أن هذه المنطقة لم تكن مجرّد ممر طبيعي، بل مركز لحياة اقتصادية قديمة استثمرت جوف الأرض وبرودتها في صناعة النبيذ.
دخلنا المغارة بصعوبة نسبية نتيجة وعورة المسار، وبدأنا الهبوط خطوة بخطوة، بينما انخفضت درجات الحرارة تدريجياً إلى 17 درجة مئوية، وارتفعت نسبة الرطوبة. الممرات موحلة وضيّقة أحياناً، وتتسع أحياناً أخرى لتكشف عن غرف ومجسمات صخرية فريدة، تتداخل فيها الصواعد والنوازل بتكوينات مذهلة صنعها الزمن ونحتها الماء ببطء مهيب.
تتألف مغارة الرويس من ثلاث طبقات طبيعية: الطبقة العادية أو الوسطى هي التي يشكل المدخل ومسار الزوار ويتم فيها الشرح عن المغارة وأهميتها، أما الطبقة الموجودة تحت الأرض فهي طبقة المغامرات التي تضم ممرات ضيّقة وتكوينات صخرية ضخمة وأشكال منحوتة ناتجة من دوران الحصى داخل المياه عبر آلاف السنين، وتتطلب قوة بدنية أكبر من الطبقات الأخرى. أما الطبقة العلوية فغير مسموح للزوار بزيارتها حفاظاً على طبيعة المغارة وسلامة الزائرين.
زوروا مغارة الرويس، وادعموا السياحة البيئية في لبنان…
لأن فـي هـذا الجمـال كنـزًا يستحـق أن يُكتشـف ويُصــان

المغاور البحرية
في كفرعبيدا
صخور منحوتة بالزمرد والأزرق
نضال مجدلاني

هنا، حيث الجمال الخام الذي لم تُشوّهه يد، تعيد الطبيعة ترميم نفسها بصمت، وتحتفي بالحياة في أضعف زواياها.
وفي الجوار، تمتد ممرات مائية تشبه مغاور صغيرة. بعضها يسمح بالسباحة أو استعمال الكاياك، وبعضها مجرد فتحة ضيقة بين الصخور، يتسلّل منها الضوء وتتلون المياه كلما مرّ شعاع.
لكن الحذر ضروري. لا يُنصح بالسباحة في حال وجود موج أو تيارات قوية.
زيارة كفرعبيدا ليست مجرد نزهة بحرية، بل عودة إلى ذاكرة لبنان الطبيعية، إلى طبقات الزمن المنحوتة في الصخر، إلى أنفاس البحر المخفية. مغاورها صمدت أمام العواصف، واحتضنت الحياة في أكثر صورها رقة وهشاشة. وقد صنفها العلماء واحدة من أهم النقاط البيئية الحيوية على الساحل اللبناني
لكن هذه الكنوز، كما غيرها في لبنان، ليست مضمونة البقاء، فالساحل يواجه ضغوطاً متكررة من مشاريع التطوير التي تهددها باستمرار. ومع ذلك، وقفت المجتمعات المحلية ومجموعات الناشطين البيئيين في وجه هذه التهديدات، وسعوا جاهدين للحفاظ على الشاطئ عاماً للجميع، خالياً من الإسمنت، حياً كما كونته الطبيعة. المعركة لم تنتهِ بعد، لكن كل من يسبح في هذه المياه، أو يستكشف هذه الكهوف بوعي، يُصبح جزءا من قصة حماية هذا الشريط الساحلي الفريد.
كما يفيض لبنان بالجمال فوق أرضه، يخبئ في أعماقه كنوزًا لا تقل روعة، عجائب صامتة، ضاربة في القِدم. من بين هذه الكنوز، تبرز مغاور كفرعبيدا البحرية، الغارقة جزئياً أو المحاذية لسطح الماء، والمنحوتة بفعل الرياح والأمواج وإيقاع الزمن الجيولوجي على مدى قرون، لتشكّل مشهداً استثنائياً على الساحل اللبناني.
تقع كفرعبيدا جنوب مدينة البترون، وتُعد من أنقى الشواطئ في لبنان. مياهها صافية، باردة في بعض زواياها، تلامس الصخور الكلسية الملساء، فتخلق عالماً تحت الماء لا يشبه غيره. هذا المكان ليس مجرّد لوحة طبيعية، بل نظام بيئي دقيق، يجمع بين ينابيع المياه العذبة والمياه المالحة، ما يُنتج بيئة نادرة تحتضن أنواعاً متعددة من الكائنات البحرية، من أسماك وسلاحف إلى إسفنج وشعاب مرجانية. إنها ليست مجرد مشاهد خلابة، بل أنظمة بيئية حيّة وهشّة، تحتضن تنوعاً بيولوجياً ثميناً تجب حمايته لا استغلاله.
عندما استكشفت هذا المكان للمرة الأولى قبل أكثر من عقد، أدركت أنه ليس مجرد موقع طبيعي، بل كائن حيّ يتنفس. ودائما أعود إليه، لأتأكد من أنه ما زال ينبض بالحياة.
ركنتُ سيارتي قرب "جوينينغ بيتش-Joining Beach"، نقطة انطلاق مفضلة لمن يعشقون المغامرة، من متسلقي الصخور في البحر إلى من يتركون صخب المدن بحثاً عن الصفاء. سرتُ نحو المسار الجانبي، ومن الأفضل ارتداء حذاء مائي للمشي على الصخور الملساء والطحالب الزلقة بسهولة، وصولاً إلى حافة صخرية تنزلق منها إلى البحر. سبحت وانعطفت نحو اليسار حيث تنخفض حرارة المياه قليلاً، فالتقطت أنفاسي وغصت تحت الماء أسفل الصخور أفتش عن مصدر ضوء الشمس، الدليل الأنسب إلى الداخل، إلى مغارة نصف مغمورة بالماء. في الداخل، امتزج الضوء وانعكاساته على المياه والصخور، وكانت التجربة أقرب إلى لحظة بين الحلم والواقع. أشعة الشمس تتسلّل من الأعلى، ترسم خطوطاً ذهبية عبر الماء الفيروزي. الجدران الصخرية مخططة تتلوّن بالزمرد والأزرق، والأسماك الصغيرة تسبح في أسرابٍ شفافة، تنسج بين الضوء والماء عالماً من السكون النابض بالحياة.
لائحة المغارات
مغارة جعيتا- قضاء كسروان
الأشهر في لبنان، ومُرشحة لعجائب الدنيا السبع
مغارة الريحان-جنوب لبنان
تقع وسط غابات كثيفة ووتتميّز بجمالها البري العذري.
مغارة الدحداح-إهدن، شمال لبنان
مغارة طبيعية في محيط وادي قنوبين.
مغارة مار مارون- الهرمل
تقع في جبل يطل على نهر العاصي بمحاذاة نبع عين الزرقاء
مغارة الزحلان- الضنية
تقع مغارة الزحلان الطبيعية في الضنية، وسط ثلاث تلال، وتتميّز بسحر جيولوجي فريد.
مغارة قانا- قضاء صور
تُعرف أيضاً بـ"مغارة قانا الجليل"
وذات أهمية دينية وتاريخية