ظلال الإمبراطوريات

في كلّ حجرٍ حكاية، وفي كلّ عمودٍ ظلّ إمبراطورية. من معابد بعلبك إلى مدرّجات جبيل، ومن صور إلى عنجر، يروي لبنان فصولاً من تاريخ الشرق، محفورة على صخورٍ لا تزال تنبض بالحياة. هذا المحور يأخذكم في جولة عبر الآثار التي جعلت من لبنان أرضًا تعبرها الحضارات ولا تمحوها العصور.

قلعة طرابلس

طبقات الزمن تحت قباب واحدة

رولا عبدالله

عند عبور الباب الخشبي الكبير الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني، تمر ببوابة ثانية مملوكية أنشأها الأمير أسندمير كورجي، حاكم المدينة آنذاك، وفوق كل مدخل تجد نقشاً باسم من بناه، كأن القلعة تحمل توقيعات عابريها عبر الزمن.

عبر دهليز حجري وساحة فسيحة، تدخل مدينةً داخل القلعة: أكثر من مئة غرفة، قاعات للأمراء، حمامات، اصطبلات، سراديب، مساحات لتصنيع الأسلحة، وقاعات تدريب، موزعة على أربع طبقات من جهة النهر، وثلاث في الوسط، وطبقتين تطلان على المدينة. في الزوايا، مدافع عثمانية لا تزال رابضة كأنها لم تبرح زمنها، تشرف على المدينة وتحرس الذاكرة.

وفي الزاوية الشرقية، كان سائح أوروبي يلمس الحجارة، يغمض عينيه ويتحسس نقشاً صليبياً شبه مطموس. لا يعرف العربية، لكنه "يشعر" بالمعنى. الضوء يتسلّل عبر الفجوات، والهواء يصعد من النهر، في مشهد سوريالي لا يحتاج إلى شرح. هنا، لكل حجر وجه، ولكل زاوية حكاية. وبعض تلك الحجارة الرملية الناعمة لا تزال تحمل نقوشاً ارتجفت لها الأزاميل قبل قرون.

في أحد الأروقة، نواويس حجرية صامتة، كانت مدافن لجنود وقادة، اليوم تستقبل خطوات الزوار. وتحت الأرض، بوابتان سرّيتان: واحدة عند أسفل البرج الثاني عشر، وأخرى في قاعدته الثانية والعشرين، تؤديان إلى خارج القلعة، توحي بعبقرية التخطيط الحربي الذي تميز به بناتها.

وتحت قبابها، تلتقي الأديان بصمتٍ لا يحتاج إلى تبرير. فوق بقايا الحصن الإسلامي، بنى الفاطميون مسجداً في القرن الخامس الهجري، حوّله الصليبيون إلى كنيسة عام 1102، فصار المكان يختزن محراباً ومذبحاً، شاهداً على قرون من التعايش والصراع والرمزية العميقة.

قبل أن تصل إليها، وأنت تصعد الطريق المتعرّج من قلب السوق القديم، مروراً بخانات العطارين والحدادين وبائع عصير التوت، تشعر أنّك لا تذهب إلى مجرد قلعة، بل إلى ذاكرة. تعبر الأزقة نحو تلة أبي سمراء، وها هي ترتفع أمامك: قلعة طرابلس، تشرف على المدينة كأنها تحرسها منذ الأزل، شاهدة على قرون من الفتح والصراع والحب والتعايش.

بحسب البروفيسور خالد عمر تدمري، أستاذ العمارة في الجامعة اللبنانية، فإنّ جذورها تعود إلى سنة 25 للهجرة مع الفتح الاسلامي الأول، عندما أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بإنشاء برج على تلة مشرفة، شُيّد على يد الصحابي سفيان بن مجيب الأزدي. ومع مرور الزمن، تحوّل البرج إلى حصن، ثم إلى قلعة متكاملة في العهد الفاطمي. وقد كشفت الحفريات التي أجراها عالم الآثار حسان سركيس في سبعينات القرن الماضي عن بقايا مسجد فاطمي ومشهد معماري سبق الفترة الصليبية.

الصليبيون، عندما وصلوا إلى طرابلس، اتخذوا من التلة موقعاً حربياً استراتيجياً، وشيّدوا عليها تحصيناتهم، وأطلقوا عليها اسم قلعة ريمون دو سان جيل، نسبة إلى الأمير الفرنسي الذي توفي فيها أثناء إحدى المعارك، ودُفن داخلها. إلا أنّ هذه التسمية، كما يؤكد تدمري، لا تختزل تاريخ القلعة، فهي ليست "قلعة صنجيل" فحسب، بل معمارٌ متعدّد الطبقات والحقبات، من الفتح الإسلامي، مروراً بالفاطميين والصليبيين، فالمماليك والعثمانيين.

 قلعة طرابلس، على بعد 85 كيلومتراً من بيروت وقرابة 40 كيلومتراً عن الحدود السورية، أقيمت فوق تلة تشرف على نهر أبو علي، في موقع استراتيجي يتقاطع فيه البحر بالجبل والتاريخ بالجغرافيا. تمتد على مساحة 136متراً طولاً و70 عرضاً، ما يجعلها أكبر قلاع لبنان وأهم معالمه الأثرية، وواحدة من أكثر القلاع المتكاملة في المنطقة.

وفي الداخل، أُعيد إحياء متحف شمال لبنان وعكار في قاعتين: واحدة في البرج الشمالي، تروي تاريخ القلعة والمكتشفات الأثرية فيها، والأخرى في قاعة الأمراء، تعرض قطعاً تعود إلى عصور تمتد من ما قبل التاريخ حتى الحقبات الإسلامية والمملوكية والعثمانية. وقد تم استحداث المتحفين بجهد مشترك بين لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس والمديرية العامة للآثار، وبدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية، بعد أن كان المتحف الأصلي قد نُهب إبّان الحرب اللبنانية.

وعلى رغم القيمة السياحية والثقافية للقلعة، قلّما تقام فيها فعاليات، بسبب صعوبة الوصول إليها وغياب مواقف قريبة، ما يضعف قدرتها على استضافة النشاطات العامة. إلا أن رسم الدخول لا يزال رمزياً بالنسبة إلى اللبنانيين، في محاولة لجعلها متاحة للجميع.

وإلى جانب القلعة، لا تكتمل الزيارة من دون المرور بجارتها الروحية، "التكية المولوية"، التي بنيت في العهد العثماني على ضفة نهر أبو علي، وكانت صرحاً دينياً وتعليمياً للدراويش حتى عام 1963. معها، تشكّل القلعة ثنائية تجمع بين صرامة العسكر ورقّة التصوّف، بين السلطة والتأمل.

أما أسطورة الحب التي منحت القلعة بعداً أوروبياً، فهي تلك التي أحياها الكاتب اللبناني أمين معلوف في روايته "الحب من بعيد"، وتحكي قصة عشق بين إبنة أمير صليبي والأمير الفرنسي جوفري روديل. وقد تحوّلت لاحقاً إلى أوبرا عالمية عُرضت على مسارح أوروبا، ومنحت القلعة شهرةً ثقافية عابرة للحدود.

طرابلس لا تُختصر بقلعتها، لكنها تختبئ فيها. في حجارتها، طبقات من الزمن، وفي ظلالها تسكن روايات لم تُكتب كلها بعد. أما القلعة، فهي أكثر من معلم أثري... إنها قلب طرابلس وذاكرتها التي لا تموت.

قلعة فقرا كفردبيان

وجهة تاريخيّة وطبيعيّة لا تُفوّت

غوى خير الله

وما دفع أيضاً الرومان إلى اختيار فقرا كمركز سياحي ديني لهم، وجود ينابيع كثيرة فيها نادراً ما تكون في أيّ منطقة أخرى، ومنها نبعا اللبن والعسل وعين العروس ونبع الساقية وعيون أخرى.

استقبلت إذن فقرا شعوباً قديمة متعددة، وكان من عادة هذه الشعوب إقامة أبنية أثرية فوق أبنية أثرية أخرى، وقد تكون هذه الآثار الرومانية بُنيت فوق أنقاض فينيقية.

ولا شك في أن الهيكل الكبير من المآثر المهمة في مجموعة الأبنية الأثرية الموجودة في فقرا، لا بل أهمّها. ويبعد عن البرج بنحو 5 دقائق ويقع غربي البرج تماماً. 

وأضاف مخلوف لـ"النهار" أن أهم معبد في فقرا هو معبد أتارغاتيس، وهناك أيضاً معبد فينوس المهم. وسنة 325 ميلادية، حكمت  الإمبراطورية البيزنطية المنطقة، وعام 380، أصبحت الإمبراطورية مسيحية، وتحوّلت المعابد الرومانية من وثنية إلى مسيحية، وشُيّدت الكنيسة البيزنطية في فقرا، وهي شاهدة على أول إيمان مسيحي في كفردبيان.

وللحفاظ على آثار فقرا، قال مخلوف: "نحن كمجلس بلدي نخطط لمهرجانات فنية وثقافية، منها مهرجان دولي للفن التشكيلي سيُقام في 23 آب/أغسطس في هذا الموقع".

وأعلن مخلوف أن البلدية تخطّط لمشروع كبير لآثار فقرا كفردبيان، وقال لـ"النهار": "طلبنا من وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة اجتماعاً، سنعرض عليه مشروعنا المتمثل بإنشاء متحف في هذا الموقع للحفاظ على إرثنا الثقافي والتاريخي... من المؤسف أن تبقى القطع الأثرية من فسيفساء وأعمدة الكنيسة البيزنطية والتيجان والصليب البيزنطي وكل الآثار الموجودة عرضة للتآكل بعوامل الطبيعة... فهذا حق وطني وإرث وطني يجب الحفاظ عليه".

من منا خلال الصيف لا يحب أن يقضي وقتاً ممتعاً في الجبل والتمتع بالطقس الجميل، وكيف الحال إن كان قضاء هذا الوقت يشمل زيارة استكشافية في منطقة خلابة مثل فقرا كفردبيان؟

لمحبّي الاستكشاف والتنزّه والآثار، قلعة فقرا هي المكان المناسب لكم. من قلب كفردبيان وفي منتصف فصل الصيف، يمكنكم الاستمتاع بالطبيعة الخلابة والتاريخ العريق، إذ تشهد القلعة الشامخة على عصور متتابعة من الحضارات التي سكنتها، وهي رمزٌ للإبداع الهندسي القديم. ولهذا السبب تُعدّ زيارتها تجربة فريدة لاستكشاف المعالم البارزة فيها، التي تجعلها وجهة مفضّلة لعشاق التاريخ والمغامرة.

قلعة فقرا ليست مجرد موقع أثري فحسب، بل أصبحت أيضاً وجهة سياحية مهمّة لمحبّي التاريخ والطبيعة. ففي فصل الصيف، يتوافد الزوار للتنزّه واستكشاف الآثار، بينما تتحول المنطقة في الشتاء إلى مركز للتزلج ضمن منتجعات كفردبيان.

تقع قلعة فقرا في منطقة كفردبيان على سفوح جبال لبنان الغربية، وتُعد من أبرز المعالم الأثرية الرومانية في البلاد. يعود تاريخ هذه القلعة إلى القرن الأول أو الثاني الميلادي، ما يجعلها شاهدة حيّة على عصور قديمة تعاقبت فيها حضارات مختلفة، أبرزها الرومانية والبيزنطية. 

تُعرف القلعة بموقعها الفريد على ارتفاع يقارب 1500 متر فوق سطح البحر، ما يمنحها إطلالة بانورامية خلابة على وادي كفردبيان والمناطق الجبلية المحيطة.

ويقول المسؤول الإعلامي في بلدية كفردبيان عصام مخلوف لـ"النهار": "شُيّدت فقرا في عهد الإمبراطور الروماني طيباريوس كلوديوس سنة 43 ميلادية خلال الاحتلال الروماني للبنان... وأهمّيتها أنها تقع على الطريق الرومانية الجبلية التي تصل الساحل (نهر إبراهيم، جبيل) بالبقاع. وكانت هذه الطريق من الطرق الرئيسية التي كانت معدة للتنقل من بعلبك وإليها".

النشاطات السياحية في قلعة فقرا

إلى ذلك، تقدّم قلعة فقرا لزوارها مجموعة متنوّعة من النشاطات السياحية. سواء كنتم من محبّي التاريخ أو تبحثون عن مغامرة في الهواء الطلق، فالقلعة توفر تجارب فريدة تناسب الجميع،  ومن النشاطات السياحية التي يمكنكم ممارستها في قلعة فقرا: 

- جولات استكشافية: جولات مشي بين أطلال القلعة لاستكشاف المعابد والأبراج والنقوش الحجرية.

-  التصوير الفوتوغرافي: فرص رائعة لالتقاط صور مذهلة للمناظر البانورامية والآثار التاريخية.

- التنزه: مسارات مخصّصة للتنزه والتسلق تتيح للزوار الاستمتاع بالطبيعة الخلابة والهواء النقي.

- جولات إرشادية: الاستفادة من جولات إرشادية مع خبراء في التاريخ والآثار للحصول على معلومات عميقة حول تاريخ القلعة وأهم معالمها.

- الاسترخاء في الطبيعة: قضاء وقت هادئ في المناطق المحيطة بالقلعة، حيث يمكن للزوار الاسترخاء والاستمتاع بجمال الطبيعة.

معبد الدكوة

 خبايا ما بين الضوء والحجر

دانيال خياط

إن لم يكن برفقتك دليل متخصص للتعرف أكثر إلى المعبد، فسيكون من حظك إن كان وليام الغجر موجوداً في البلدة، مهندس ميكانيك الطيران الذي تحوّل إلى دليل وطني لشغفه بالتاريخ والآثار، بكل الأحوال سيلاقيك الفتى شربل أبو عنّة الشغوف بالمعبد جاره، يرافق كل الوفود مخزناً المعلومات من الأدلاء الذين يرافقونها، ويتبرع بها للزائرين.

يسهل الوصول إلى معبد الدكوة، من دون مجهود جسدي، لكن ينصح بأن تراقفوا شربل صعوداً في الجبل. رحلة التسلق قصيرة لكنها زلقة في بعض الاماكن تحتاج لأحذية مناسبة، وهي بالتأكيد تستحق المشقّة، للوصول إلى الكهوف المنحوتة يدوياً ومدافن من العهد الروماني بنووايسها الحجرية، تجربة مهيبة، لا يقلّ عنها مهابة، وإن يناقضها، مشهد سهل البقاع الذي ينفلش تحت قدميك كأنك تحلق مع الطيور، ولشربل مشاريع طموحة لهذا المطّل لا يبخل بها.

أفضل الأوقات لزيارة الدكوة هي عند العصر، عندما تنكسر أشعة الشمس على قمم سلسلة جبال لبنان الغربية، فيتوهجّ المعبد كأنه من ذهب، وينبض السهل بالحياة. لعبة الضوء هي واحدة من أركان المعبد عبر طاقتين متقابلتين شرقية وغربية بزخرفاتها الفريدة. 

معبد الدكوة يصلح أن يكون ضمن خريطة تشمل كل معابد المجاورة، فلا تترددوا. 

يزخر البقاع بالمعابد الرومانية التي تتيح زيارتها فرصة التعرف إلى بلداته وقراه. ومن بين هذه المعابد معبد الدكوة الذي يتخذ اسمه من البلدة الصغيرة الوادعة في البقاع الغربي.

يمكن الوصول إلى بلدة الدكوة، إما عن طريق معمل السكر في مجدل عنجر، التي تقابل مفرق بلدة عنجر، وإما عن طريق بلدة الخيارة في البقاع الغربي عبر مفترق بلدة المرج، إن كنت قادماً عن طريق شتورا – المصنع. مشوار ينقلك تدريجياً من مشهد مديني الى ريفي. توغلك باتجاه السهل، أشبه بإبرة ماكينة الدرز، ما بين طرفي سجادة من الحقول على الجانبين.

لا توجد إشارات ولا لافتات تدل الى موقع البلدة ولا الى معبدها، فلا تترددوا في السؤال، هي طريقة للتواصل مع السكان، وفرصة للإستكشاف؛ اختاروا بسطة خضر وفاكهة، دكاناً أو فرن معجنات... وكونوا حشريين في الحديث والتذوق، فقد تستدلون إلى الفطائر الحرّة في مجدل عنجر والأكل البرازيلي في السلطان يعقوب التحتا، البلدتين المجاورتين للدكوة.

تقع بلدة الدكوة في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وكأنها مخبأة في عبّه، والمعبد بدوره مخبأ في عبّها. متخفياً بين طوق من المنازل، إنه البناء الأخير في آخر البلدة. تسلك أزقة ضيقة صعوداً، وتركن سيارتك بين المنازل المرحبة بالزوار، فتجد المعبد هناك، منتظراً من يزوره، ليبدأ بإخبارك عن حيوات مرت من هنا، درس في التواضع حول نشوء الحضارات وإندثارها. لكن عليك أولاً أن تمتلىء بسكينة المكان وبروحه، فلا تتردد في تلمس حجارتها، وفي تمرير أصابعك فوق ضربات الإزميل، لتشعر بمجهود ناحتها، فتلك الحجارة استودعت منذ غابر الزمان الأحاديث التي لهجت بها القلوب.

نيحا البقاع

على طريق القوافل الرومانية بين بيروت وبعلبك

دانيال خياط

وقد لعبت المياه دوراً في هندسة المعبدين وطقوس العبادة فيهما، لاسيما في المعبد الصغير. أما المعبد الكبير، فهو مصغّر عن معبد باخوس ببعلبك، هو الأغنى بنقوشه، وأبرزها لتيبيريوس، كاهن المعبد، الذي لا يزال، ولو منقوشاً على الحجر، ساهراً على هيبة المعبد. قبل دخول المعبد عبر الدرجات المفردة، فتبدأ بالقدم اليمين وتنتهي بها، توقف عند ساكف الباب وارفع نظرك الى أعلى.

التسكع في معابد نيحا والاستسلام لإيقاع الزمن المتباطىء يضاعفان زخم التجربة، فالريح التي تعبث بالمكان، منذ غابر الزمان، حملت معها همسات من مروا في المكان، وطيف هوشماميا العذراء التي انقطعت عن أكل الخبز 20 سنة وفاء لنذر.

إن كنت تظن ان هذا كل ما لدى نيحا أن تقدمه، فاصبر هناك المزيد. لنكمل الرحلة صعوداً بإتجاه جرود البلدة، انظر الى يسارك ستجد مقلع الحجارة التي بني بها الهيكل، وفيما تعبّ السيارة بحراً من بساتين الفاكهة، وأنت مأخوذ بالمشهد سيطل عليك حصن نيحا، ألم نقلّ أن في نيحا يتجاور البأس مع الضعف، العبادة مع الحرب؟ لقد عمل المخربون والطامعون وعوامل الزمان بحصن نيحا، لكن زيارته ستخبر عما كان، ناهيك  بالمنظر الذي يمتد حتى سهل البقاع وسياجه سلسلة جبال لبنان الشرقية.

اذا رغبتم يمكنكم أن تكملوا الرحلة لتزوروا الكاتدرائية التي تطل عليكم بقبتها، وقد بنيت حديثاً على تخوم نيحا، الفرزل وزحلة.

ونيحا ليست فقط بلدة المعابد والتاريخ، بل أيضاً موطن الفاكهة الطازجة والمقطّرات العطرية. لا تفوّتوا فرصة تذوّق خيراتها، والارتواء من نبعها... ومن كرم ناسها.

ماذا لو أتيح لك ليوم واحد أن ترتحل على المسار الذي سلكته القوافل الرومانية على مدى قرون، ما بين بيريت/بيروت وهيليبوليس/بعلبك؟ لقد إخترنا لك، من على هذه الدرب المزروعة بالمعابد والقلاع الرومانية، محطة رئيسية في بلدة نيحا البقاعية في قضاء زحلة، نيحاتا سالفاً، بمعبديها وحصنها من آثار الحقبة الرومانية. صحيح أن الرحلة اليوم بالسيارة أسرع ولكن ما إن تصل الى نيحا فسيتباطأ الزمان.

متخفيين في واد بين جبلين، وكأن المعبدين أنشئا هناك، في آخر البلدة، مكافأة لعناء اكتشافهما. يتوجب عليك أن "تشدّ طلوع" لتبلغ موقعهما، قبل أن تنحدر الطريق نحو مدخلهما، وما بين الطلعة والنزلة، عن يمينك يطلّ جانب من المعبد الكبير، كتلة ضخمة منحوتة، مدهشة تحبس الأنفاس. ثمة رسم دخول لزيارة المعبدين، وتفتقر نيحا الى أدلاء سياحيين يرافقون الزائرين.

لكن قبل أن تستعجل الدخول إلى المعابد، انظر الى يمينك، ستجدها هناك: لقد فعل الزمن فعله فيها إهمالاً، لكنها لا تزال تحتفظ بمعالم مكانتها، بخصلات شعرها المسدولة حول قلادتها، صولجانها، بقايا الأسدين حارسيها... إنها "أتارغاتيس"، إلهة الحب والخصب والجمال، التي من أجلها ومن أجل "هدرانيس" إله البرق والرعد أقيم معبدا نيحا الكبير والصغير.

يجمع معبدا نيحا ما بين الصلابة والرقة، بين رؤوس أسود تنظر إليك شزراً، وباقة ورود ونبات من حجر، لذلك تمعنوا بالتفاصيل، من كل الاتجاهات، دوروا حول المعبدين القائمين على ضفتي سيل ذوبان ثلوج سلسلة جبال لبنان الغربية.