لبنان في الذاكرة
متاحف تحكي الحكاية

من المتحف الوطني في بيروت، حيث تختصر التماثيل والموزاييك تاريخ آلاف السنين، إلى متاحف خاصة تتوزّع بين الجبال والسواحل، يروي كل مكان قصة مختلفة: عن المقاومة، عن الطفولة، عن الصناعة، عن الحرف، عن الشعر والرسم والموسيقى.
في هذا المحور، نتجوّل بين المتاحف الكبرى والصغيرة، الرسمية والخاصة، الكلاسيكية والحديثة، ونكشف كيف باتت هذه الفضاءات أداة تواصل حيّة بين الماضي والحاضر.
من مقتنيات لا تقدّر بثمن إلى مبادرات فردية نادرة، لبنان يفتح متاحفه للعين والقلب معاً.

متاحف بيروت
الحجر الشاهد على الحكاية

ليست بيروت فقط مدينة البحر والمقاهي والحياة الصاخبة... إنها أيضاً مدينة المتاحف. خلف واجهاتها العريقة وأزقتها التي تنبض بالحكايات، تختبئ عوالم كاملة من الجمال والذاكرة والمعرفة. بدءاً من المتحف الوطني الأم، ومن "بيت سرسق" الذي تحوّل من قصر أرستقراطي إلى متحف للفن الحديث، إلى "بيت بيروت" الذي يوثّق وجع الحرب ويمنح الذاكرة مساحة للتأمل، وصولاً إلى المتاحف العلمية المتخصصة كـ"متحف ميم"، و"متحف عصور ما قبل التاريخ" في الجامعة اليسوعية، ترسم هذه الصروح صورة مختلفة للعاصمة: صورة مدينة تعرف كيف تحوّل الألم إلى أمل، والحجارة إلى سرد، والفضاء إلى سؤال مفتوح.
في الآتي، جولة على أربعة متاحف لبنانية فريدة، تكشف وجوه بيروت المتعددة: مدينة الثقافة، ومدينة الفن، ومدينة الإنسان.
في قلب الأشرفية... بيت سرسق الذي تحوّل متحفاً ومركزاً ثقافياً
زهير غدار
بمجرّد أن تتخطى بوابة متحف سرسق في الأشرفية، ينتابك شعور بالرهبة والجمال معاً. فالفخامة التي تحيط بالمكان، من الهندسة المعمارية إلى التفاصيل الداخلية، تنقلك إلى زمن آخر… إلى عصر عزّ بيروت وألقها.
هذا البيت الذي يزيد عمره عن 113 عاماً، لم يكن مجرد مسكن، بل حكاية بحدّ ذاته. كل غرفة فيه تروي قصّة، وكل زاوية تحمل بصمة زمن. في هذا المكان تحديداً التقيت السيدة كارول خياط فرحات، نائبة مدير المتحف، التي قدّمت لي لمحة غنيّة عن تاريخه العريق. قالت: “هذا البيت هو بيت نيكولا إبراهيم سرسق، شُيّد عام 1912. وقبل وفاته، كتب وصية يقدّم فيها منزله هديّة للشعب اللبناني ليُحوّل إلى متحف للفن الحديث والمعاصر.”

ومنذ افتتاحه، أصبح المتحف بيتاً حقيقياً للفن، إذ يضم أكثر من 3000 عمل فني لفنانين لبنانيين بالدرجة الأولى، إضافة إلى بعض الأعمال لفنانين عرب وأجانب. والأجمل، أن قسماً كبيراً من الأسماء اللامعة في الفن اللبناني كانت بدايتها من هنا.
خلال الجولة، تلفت لوحة مميزة عبارة عن بورتريه لنيكولا سرسق أنجزها الفنان العالمي كيس فان دونغان. هذه اللوحة تضرّرت من جراء انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس، وأُرسلت إلى مركز بومبيدو في باريس للترميم، لتعود اليوم معروضة وهي تحمل ندبة من جراح المدينة.
ومن أبرز المعروضات أيضاً، تمثال الشهداء الأول الذي كان قائماً سابقاً في ساحة الشهداء قبل استبدال الحالي به عام 1960. نُحت هذا التمثال عام 1930على يد الفنان يوسف الحويّك، ووُهب للمتحف في عام 1993، وهو اليوم يحتل مكانة بارزة ضمن مجموعة المتحف الدائمة.
هذا المتحف لا يقتصر على الأعمال الدائمة، بل يستضيف باستمرار معارض موقتة لفنانين لبنانيين وعالميين، ما يجعله مساحة حيّة ومتجدّدة تنبض بالحياة والفكر والإبداع.
يفتح أبوابه للزوار من يوم الأربعاء إلى الأحد، من الساعة العاشرة صباحاً حتى السادسة مساءً، ويقع في شارع سرسق – الأشرفية.
زيارة متحف سرسق لم تكن تجربة عادية، بل كانت غوصاً في ذاكرة بيروت، ولقاءً حيّاً مع إرث ثقافي لا يزال ينبض رغم كل ما مرّ على هذه المدينة من ألم وتحوّل.

"بيت بيروت"
حيث تعبر من الحاضر إلى قلب الحرب

قبل اندلاع الحرب، كان مبنى بركات مبنى سكنياً راقياً. الطبقة الأرضية كانت تضم محالّ تجارية، أمّا الطبقات العليا فكانت شققاً سكنية. لكن ما إن اشتعل فتيل الحرب في 1975، حتى تغيّر كل شيء. تحوّل المبنى إلى مركز قنص استراتيجي، بسبب موقعه الجغرافي الحسّاس على "خط التماس" الذي فصل بيروت الشرقية عن الغربية، وبفعل هندسته المعمارية التي وفّرت لكل غرفة إطلالة مباشرة على الطرق. هذه العوامل جعلت منه موقعاً عسكرياً مهماً، استخدمه القنّاصون طوال سنوات الحرب.
خلال الزيارة، التقينا نور نصر، منسّقة مشروع "حكيلي" في "بيت بيروت" التي زوّدتني الكثير من المعلومات حول تاريخ المبنى وتحولاته. أخبرتني كيف استُعيد المبنى بعد سنوات من الإهمال، وأُعيد ترميمه ليكون اليوم مساحة مفتوحة للذاكرة والتأمّل في ماضٍ لا يجوز نسيانه.
من بين أبرز ما يُعرض داخل المتحف، أرشيف "فوتو ماريو" – أحد المحالّ التجارية التي كانت موجودة في الطبقة الأرضية – حيث جُمعت مجموعة ضخمة من الصور الفوتوغرافية القديمة، أُعيد إنتاجها من النيغاتيف الأصلي الذي اكتُشف خلال زيارة الباحثة عليا منى حلاق في التسعينيات. هذه الصور لا توثّق الناس فحسب، بل توثّق الزمن أيضاً: لحظات عائلية، وجوه، محالّ، وحياة كانت تسير بشكل طبيعي قبل أن يتبدّل كلّ شيء.
تخيّل أن تدخل مبنى في وسط بيروت عام 2025 فتشعر فجأة بأنك انتقلت بالزمن إلى عام 1975. هذه هي اللحظة التي عشتها حين دخلت إلى "بيت بيروت" للمرة الأولى. كأن الزمن توقّف عند بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وانفتحت أبواب الذاكرة بكل ما تحمله من ألم وحنين، من صور متجمّدة لحياة توقّفت فجأة، إلى أغراض قديمة تشهد على ما عاشه الناس في تلك المرحلة.
"بيت بيروت"، المعروف سابقاً باسم "مبنى بركات"، ليس مجرد متحف؛ بل هو بوابة إلى الذاكرة الجماعية للبنانيين، يوثّق فصلاً دامياً من تاريخ المدينة، من خلال جدرانه، وغرفه، وصوره، وكل ما تركه الزمن وراءه. يقع المبنى على تقاطع السوديكو في قلب العاصمة، ويُعدّ من أبرز الشواهد الحيّة على الحرب، ليس لما يحتويه من أرشيف فحسب، بل لما شهده بنفسه.
في زاوية أخرى من المعرض، نجد صالون "إفرّام" الذي فُتح عام 1961، واستمر في العمل حتى أثناء الحرب، وكان يفتح أبوابه ويغلقها بحسب أوقات إطلاق النار ووقفه. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تجعل زيارة "بيت بيروت" تجربة مؤثرة، لأنها تُظهر كيف حاول الناس التمسّك بالحياة، حتى في أوج الرعب.
بالإضافة إلى غرفة القنّاص التي بناها أحد المقاتلين بنفسه، مستخدماً براميل الإسمنت وخشب أبواب المنازل، وفتح فيها فتحات صغيرة لإطلاق النار على كل من يمرّ على خط التماس.
قصص كثيرة مثل هذه تختبئ بين جدران المبنى، تنتظر من يكشفها وزيارتي لهذا المتحف لم تكن جولة في الذاكرة فحسب، بل كانت تذكيراً ضرورياً: بأن الحرب لم تكن مجرّد أرقام وتواريخ، بل وجوه، وأماكن، وأحلام انكسرت، وأن حفظ الذاكرة لا يعني فقط تذكّر الألم، بل تذكّر الحياة التي كانت قبل كل شيء.

متحف عصور ما قبل التاريخ في بيروت
عندما تروي الحجارة قصّة إنسان الحجر

في زاوية هادئة داخل حرم جامعة القدّيس يوسف في بيروت، يقع متحف عصور ما قبل التاريخ، أول متحف من نوعه في الشرق العربي. هنا، حيث يحتفظ الحجر بقصص الإنسان الأول، جالت "النهار" بين واجهات العرض لتكتشف عالماً يعود إلى ما قبل اختراع الكتابة، إلى زمنٍ عاش فيه الإنسان على الصيد وجمع الثمار، وصنع أدواته من الحجارة والعظام.
افتُتح المتحف في تموز/يوليو عام 2000، بمبادرة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة، وبجهد خاصّ من الآباء اليسوعيين الذين كرّسوا سنوات طوالاً لدراسة العصور القديمة في لبنان. لا يكتفي المتحف بدوره التعليمي فحسب، بل يشكل أيضاً مركزاً للبحوث ومكتبة متخصّصة يستفيد منها الباحثون والطلاب في مجالات التاريخ وعلم الإنسان.
يمتد المتحف على طبقتين واسعتين، ويضم 22 واجهة عرض تحتوي على نحو 500 قطعة أثرية، تمثل مختلف مراحل تطور الإنسان وطرق عيشه عبر آلاف السنين. وبين هذه المعروضات، يمكن الزائر مشاهدة أدوات حجرية استخدمها الإنسان القديم في الصيد، وبقايا عظام حيوانات كفرس النهر الذي عاش في لبنان قبل آلاف السنين، والدليل ناب ضخم عُثر عليه في منطقة الناعمة. ويحتوي المتحف على مجسّمات لمواقع أثرية، وصور وخرائط توضح أماكن اكتشاف هذه القطع، بالإضافة إلى فيلم وثائقي يُعرض باللغتين الفرنسية والعربية، يروي تاريخ لبنان في عصور ما قبل التاريخ.
في هذا المتحف، لا يُعرض التاريخ فحسب، بل يُروى. لكل حجر أُثر عليه، ولكل أداة عُثر عليها، قصةٌ تختصر آلاف السنين من وجود الإنسان في هذه الأرض.

"متحف ميم"
رحلة بين أندر المعادن في العالم داخل حرم الجامعة اليسوعية

وفي حديث إلى "النهار"، تقول مديرة المتحف سوزي حاكميان: "لدينا في المتحف قطعة ألماس عمرها ثلاثة مليارات سنة، إلى جانب مئات القطع النادرة. متحف ميم هو من أجمل المتاحف في العالم، وقد أسّسه سليم إده بعد سنوات من جمع المعادن من مختلف أنحاء العالم. في البداية، كان يحتفظ بهذه المجموعة لنفسه، ثم قرّر مشاركتها مع الناس، وهكذا وُلدت فكرة المتحف. تواصل مع رئيس الجامعة وطلب منه مساحة مناسبة، فحُوّلت طبقة كانت مخصصة لمواقف السيارات إلى متحف مجهّز بالكامل، ومفتوح اليوم أمام الزوّار يومياً باستثناء الجمعة، فيستقبلهم من العاشرة صباحاً حتى الواحدة، ومن الثانية بعد الظهر حتى السادسة مساءً".

وتضيف: "مجموعة سليم إدّه تُعدّ ثاني أهم مجموعة معدنيات خاصة في العالم، من حيث ندرة القطع ونوعيتها وهندستها الطبيعية. هدفنا أن يتعرّف الجميع إلى هذا العالم الرائع، وأن نُشجّع الشباب على الاهتمام بالعلوم، لأن هذا المتحف هو في النهاية مشروع علمي قبل أن يكون معرضاً فنياً".
في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، وتحديداً في حرم الجامعة اليسوعية، يقع "متحف ميم"، أحد أبرز المتاحف المتخصّصة بعالم المعادن في الشرق الأوسط. أسّسه المهندس اللبناني سليم إدّه، الذي حوّل شغفه بجمع الحجارة الكريمة والمعادن إلى صرح علمي وثقافي فريد. يضم المتحف اليوم أكثر من 2400 قطعة نادرة، جمعت من 75 دولة حول العالم، بينها قطعة ألماس يعود عمرها إلى أكثر من ثلاثة مليارات سنة.
"متحف ميم" ليس مجرد مكان للعرض، بل هو تجربة علمية وجمالية متكاملة. من خلال قاعات عرض مجهّزة بمعايير عالمية، تعرض المعادن بألوانها وأشكالها الطبيعية المتنوّعة بين الأصفر والأحمر والأخضر وحتى الشفاف، بأشكال هندسية مذهلة كالمكعّبات والأهرام والحلزونات.
يقول سليم إده إن هدفه الأساسي هو تحفيز الشباب على الاهتمام بالعلوم، وخصوصاً الجيولوجيا والكيمياء، عبر اكتشاف الجمال المخفيّ داخل الصخور. أمّا اختيار اسم "ميم"، فيعود إلى تأكيد الهويّة العربية للمتحف، إذ يرمز الحرف إلى كلمات متحف، معدن، ومنجم.

متاحف في لبنان
متحف ميم
متحف ميم
متحف مصرف لبنان
متحف مصرف لبنان
متحف عصور ما قبل التاريخ
متحف عصور ما قبل التاريخ
متحف قصر بيت الدين
متحف قصر بيت الدين
متحف الجامعة الأميركية
متحف الجامعة الأميركية
متحف جبران خليل جبران
متحف جبران خليل جبران
متحف روبرت معوّض
متحف روبرت معوّض
المتحف الوطني في بيروت
المتحف الوطني في بيروت